يقول المُصنِّف -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [يشير الشيخ -رَحِمَهُ اللَّهُ- إِلَى الرد عَلَى المعتزلة ومن يقول بقولهم] أي: من الفرق التي ذكرنا [في نفي الرؤية وعلى من يشبه الله بشيء من مخلوقاته، فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: {إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر} الحديث أدخل كاف التشبيه عَلَى "ما" المصدرية أو الموصولة] كلاهما يصح ومما هو معلوم أن المصدر المنسبك والمؤول يتركب من ما المصدرية أو الموصولة، والفعل، أو أن والفعل كقوله تَبَارَكَ وَتَعَالَى: ((وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُم)) [البقرة: 184] أي: صيامكم خير لكم.
وفي الحديث: (كما ترون) أي: كرؤيتكم،
فيكون التشبيه في الرؤية لا في المرئي، يعني: ترونه رؤية كرؤية القمر، فهل يعد هذا تشبيهاً لله تَعَالَى بالقمر تَعَالَى الله عن ذلك علواً كبيراً؟! لا يمكن، وقد فهم القوم من هذا الحديث أنه يوهم التشبيه فَقَالُوا: لابد أن نؤوله، فأعمى الله أبصارهم عن هذه الحقائق التي تتضح لمن يفهم لغة العرب وأسلوبها، ولجأوا إِلَى التأويل الباطل.
قَالَ: [ومن تأمل النصوص حق التأمل علم أن المراد إثبات الرؤية وتحقيقها ودفع الاحتمالات عنها] لأن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -كما في الروايات الأخرى- لما أشار أشار إِلَى القمر ثُمَّ قَالَ: {لا تُضامُّون في رؤيته}فلا يمكن بعد هذا البيان أن يؤول، وإذا أولنا مثل هذه الأمور الواضحة فما الذي لا يؤول؟! فذكر المُصنِّف أنه [إذا سلط التأويل عَلَى مثل هذا النص كيف يستدل بنص من النصوص] فما هو النص الذي يمكن أن نقول: إنه صريح قطعي لا يحتمل التأويل؟! وهل يحتمل هذا النص أن يكون معناه "أنكم تعلمون ربكم كما تعلمون القمر ليلة البدر"؟! هذا مما لا يقوله إنسان عربي فضلاً عن رَسُول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعلم النَّاس بربه وأفصح العرب.
ثُمَّ يقول المصنف: ويستشهد لهذا التأويل الفاسد بقوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] ونحو ذلك مما استعمل فيه رأى التي من أفعال القلوب]، فـالمؤولة يقولون: الرؤية التي في الحديث ليست رؤية حقيقة؛ وإنما هي رؤية قلبية كما في قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ)) [الفيل:1] والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد في عام الفيل ولم ير ما فعل الله بأصحاب الفيل.
فالرؤية إنما كانت رؤية قلبية أو مثلها قوله تعالى: ((أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ)) [المجادلة:7] يعني: ألم تعلم ذلك بقلبك! وهذا الاستدلال في غير موضعه فهو من أبطل الباطل في مثل هذه النصوص الواضحة
نعم، تأتي "رأى" لثلاثة معان: بصرية وقلبية ومن الرؤيا التي تحصل في المنام، فكما في البيت الشعري المشهور
رأيت الله أكبر كل شيء            محاولة وأكثرهم جنودا
وقد نصبت مفعولين في هذا البيت: المفعول الأول: لفظ الجلالة "الله" والمفعول الثاني: أكبر، وكقولك: رأيت زيداً عالماً، أي: علمته عالماً أو وجدته عالماً فـ"زيد" مفعول أول.
و"عالماً" مفعول ثان، أما رأى البصرية فإنها تنصب مفعولاً واحداً، تقول: رأيت زيداً، أي: بعيني.
أما رأى التي تأتي بمعنى الرؤيا التي تحصل في المنام: فتتضح من خلال السياق مثالها: قول إبراهيم -عَلَيْهِ السَّلام- لابنه إسماعيل: ((إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ))[الصافات:102] وقول يوسف عَلَيْهِ السَّلام لأبيه: ((إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)) [يوسف:4] فَقَالَ له أبوه: ((يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ)) [يوسف:5] ومعنى هذا أنه قال له: إني رأيت ذلك في المنام، فَقَالَ له أبوه: لا تقصص رؤياك، وفي آخر الأمر قَالَ: ((هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيايَ))[يوسف:100] فعلم بعد هذا التفريق أن الثلاثة المعاني لا تشتبه ولا تلتبس في الكلام، وإذا جَاءَ شخص، وقَالَ: أنا لم أفهم من كلام فلان ماذا يقصد بالرؤية أهي القلبية أو البصرية أو المنامية؟! كَانَ هذا من ضعف تعبير المتكلم وعجزه وعيه، وليس هذا من فصاحته وبلاغته أو أن يكون تعمد عدم الإفهام، وهذه الاحتمالات لاترد بأي حال من الأحوال في كلام الله، ولا في كلام رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
.
يقول المصنف: [ولا شك أن "رأى" تارة تكون بصرية وتارة قلبية وتارة تكون من رؤيا الحلم وغير ذلك، ولكن ما يخلو كلام من قرينه تخلص أحد معانيه من الباقي؛ وإلا لو أخلى المتكلم كلامه من القرينة المخلصة لأحد المعاني -الثلاثة- لكان مجملاً ملغزاً لا مبيناً موضحاً وأي بيان وقرينة فوق قوله: {ترون ربكم كما ترون الشمس في الظهيرة ليس دونها سحاب} فهل مثل هذا مما يتعلق برؤية البصر أو برؤية القلب، وهل يخفى مثل هذا إلا عَلَى من أعمى الله قلبه؟!] نسأل الله العافية ((فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))[الحج:46] فإذا عميت القلوب فإنها تعمى عن الأدلة الواضحة الجلية، ولا حيلة فيمن عمي قلبه عن فهم هذه النصوص، ولا نستطيع أن نهدي من أضل الله، والواجب عَلَى المتبصرين أن يقيموا الحجة عَلَى أهل العمى وأما هدايتهم وبصيرة قلوبهم فهي عَلَى الله -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- متى أراد ومتى شاء الهداية منَّ بها عليهم، وإلا تركهم في ضلالهم يعمهون.
ثُمَّ يقول -رَحِمَهُ اللَّهُ-: [فإن قالوا: ألجأنا -أي: ألجأتنا قرينة عقلية- إِلَى هذا التأويل حكم العقل بأن رؤيته تَعَالَى محال لا يتصور إمكانها! فالجواب: أن هذه دعوى منكم خالفكم فيها أكثر العقلاء] ومن الذي قال لكم: إن العقل يحكم في هذه الأمور، وإنه المرجع لها؟! ثُمَّ كيف وقد جَاءَ النص بتقرير هذه الأمور؟!